الأحد، 21 ديسمبر 2014

المدارس المعجمية (خصائص ومآخذ)



المدرسة الأولى:
           يشكّل العين والبارع والتّهذيب والمحيط والمحكم، وما دار حولها من كتب، مدرسة واحدة في تاريخ المعاجم العربية. والرّابطة المشتركة بينها أنّها مرتّبة على حروف المعجم وفقا لمخارجها؛ وجعل هذا التّرتيب أساس تقسيمها إلى كتب، ثمّ تقسيم هذه الكتب إلى أبواب تبعا للأبنية، ثمّ ملء هذه الأبواب بالتّقاليب.
           ومن الطّبيعي ألّا تتّحد هذه الكتب جميعا في كلّ شيء، بل اختلفت في كثير من الوجوه، وتطوّرت الأمور الّتي اشتركت فيها بين الكتاب الأوّل والأخير، وحاول المتأخّر منها أن يتخلّص ممّا وقع فيه سابقه من عيوب.
          فقد كان هدف الخليل حصر اللّغة واستقصاء الواضح والغريب منها، وهدف الأزهري تهذيبها وتخليصها من الغلط والتّصحيف، وهدف ابن سيده جمع المشتّت من اللّغة في الكتب المتفرّقة وتصحيح ما فيها من أخطاء في التّفسيرات النّحوية. ويبدو أنّ هدف القالي يشبه هدف الأزهري، وأنّ هدف الصّاحب بن عبّاد استدراك ما فات سابقيه من غريب.
          وأمّا عن خصائص كلّ واحد منها، فإنّنا لا نرى في العين شيئا خاصّا عني به أكثر من غيره، وذلك بسبب أوّليته.  وأمّا البارع فيمتاز بالضّبط والصّحة، ويمتاز التّهذيب بالجمع والمعارف الدّينية، والمحيط بالغريب والاختصار، والمحكم بالتّنظيم والمسائل النّحوية والصّرفية، وهو أحسنها ترتيبا لأبوابه وموادّه وألفاظه في داخلها وأجملها منهجا نظريا.
        وأمّا عن المآخذ فأهمّها صعوبة البحث فيها، ومشقّة الاهتداء إلى اللّفظ المراد، واستنفاد الوقت الطّويل من الباحث، بسبب التّرتيب على المخارج والأبنية والتّقاليب. ولعلّ هذه الصّعوبة هي السّبب في قيام المدرسة الثّانية من المعاجم، إذ أحسّ القدماء بها؛ فحاولوا تيسيرها والتخلّص منها.
المدرسة الثّانية:
      وتضمّ ثلاثة معاجم هي: الجمهرة والمقاييس والمجمل، ولا يتّضح بينها الرّابط المشترك سوى أنّها مرتّبة على الألف الباء والأبنية معا، مع التدرّج من أوّل الكلمة إلى آخرها. ولكنّها تختلف بعد ذلك اختلافا كبيرا، فالجمهرة تقسّم بحسب الأبنية أوّلا؛ ثمّ يقسّم كلّ بناء إلى الحروف، وأمّا المقاييس والمجمل فيقسّمان وفقا للحروف أوّلا، ثمّ يقسّم كلّ حرف إلى أبنية. والأبنية في الجمهرة كثيرة مختلطة، وعند ابن فارس قليلة محكمة. والجمهرة تراعي التّقاليب؛ وابن فارس يطرح ذلك في معجميه. ولا هدف لابن دريد في معجمه إلّا الجمع كبقيّة أصحاب المعاجم، أمّا ابن فارس فله أهدافه الخاصّة في معجميه.
      وأمّا عن أبرز عيوب هذه المدرسة فصعوبة التّرتيب الّذي سارت عليه بالرّغم من اتّباعها للألف الباء. وكان لهذه الصّعوبة عدّة أسباب؛ كلّها من آثار المدرسة الأولى الّتي لم تستطع هذه المدرسة التخلّص منها. وأهمّها تقسيم المعجم بحسب الأبنية، ثمّ تمسّك ابن دريد بنظام التّقاليب. على أنّ هناك مآخذ أخرى، منها ما يتّهم به صاحب الجمهرة من كذب وصنع للألفاظ، وكذا الانفراد بألفاظ لم ترد عند القدماء، مع تصحيفه وإكثاره من الألفاظ المريبة والمولّدة، ضف إلى ذلك تفسيره لكثير من الألفاظ بكلمة (معروف).
المدرسة الثّالثة:
          وتضمّ عدّة معاجم كبيرة هي: الصّحاح والعباب واللّسان والقاموس والتّاج، وقد لقيت من الشّهرة ما لم تلقه مدرسة أخرى في تاريخ المعاجم العربية.
          وتشترك كلّها في أساس التّقسيم الّذي لم يتغيّر منذ أوّلها إلى آخرها. واعتمد هذا الأساس تقسيم المعجم كلّه إلى أبواب وفقا للحرف الأخير من الكلمات، وتقسيم كلّ باب إلى فصول وفقا للحرف الأوّل، وترتيب المواد في هذه الفصول وفقا لحروفها الوسطى، مع اعتبار الحروف الأصول وحدها في جميع هذه المراحل.
         وتفترق في ما عدا ذلك، إذ يلتزم الصّحاح الألفاظ الصّحيحة وحدها؛ وتغلب عليه الصّبغة النّحوية الصّرفية، وتغلب على العباب الصّبغة الأدبية والاهتمام بالشّواهد الشّعرية، ويلتزم القاموس الاختصار والاستقصاء؛ وتغلب عليه الصّبغة الطبّية، ويكثر من ذكر الأعلام وخاصّة أعلام المحدثين والأماكن والمصطلحات، ويغلب على اللّسان والتّاج الإسهاب والإطناب، مع اقتصار الأوّل على المواد اللّغوية تقريبا؛ واتّساع رقعة الثّاني إلى ما ضمّه أصله القاموس وما زاده هو، فالتّاج خليط من دوائر المعارف والمعاجم اللّغوية.  
        ويؤخذ على هذه المدرسة أمور ترتبط بالمنهج الّذي سارت عليه في التّقسيم وترتيب المواد، وإن كان أساس التّقسيم عندها أيسر ممّا رأيناه عند المدرستين السّابقتين، ذلك أنّ النّظر في آخر الكلمة ثمّ أوّلها ثمّ وسطها فيه تشتيت للذّهن إذ ينظر من عدّة وجوه. وأيسر منه النّظر من وجه واحد.
المدرسة الرّابعة:
          وتضمّ أنواعا مختلفة من المعاجم، من اليسير أن نجعل كلّ واحدة منها مدرسة مستقلّة، ولكنّها جميعها تسير في تقسيمها وترتيب حروفها على الألف باء، باعتبار الحرف الأوّل فالثّاني فالثّالث ... إلخ من الأصول.
         على أنّ هناك خلافا واضحا بين معاجم اليسوعيين ومعاجم المجمع اللّغوي، فالأوّلون قصدوا بتأليف كتبهم للطّلبة والتّلاميذ، وربّما طلبة مدارس اليسوعيين خاصّة، أمّا المجمع فيرمي إلى أنواع مختلفة من المعاجم منها الكبير الجامع ومنها الوسيط للأدباء والكتّاب، ومنها التّاريخي وما إلى ذلك.
          وأدّى هذا الاختلاف في الغاية إلى اختلاف كبير في ميدان البحث والمنهج، فمعاجم اليسوعيين كلّها تميل إلى الاختصار مع الجمع وحذف ما يؤذي أسماع الطّلبة من الألفاظ البذيئة وأسماء العورات، والعناية بالألفاظ المسيحية والعامّية، أمّا معاجم المجمع فلكلّ منها ميدان خاص من العلوم يهتمّ بها.
         على أنّ هذه المدرسة الحديثة هي أحسن المدارس ترتيبا وتنظيما.   
توضيح:
1/ كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175 هـ)، البارع لأبي علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي (ت 356 هـ)، التّهذيب لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370 هـ)، المحيط للصّاحب بن عبّاد (ت 385 هـ)، المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي (ت 458 هـ).
2/ الجمهرة لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد (ت 321 هـ)، المقاييس والمجمل لأحمد بن فارس (ت 395 هـ).

3/ الصّحاح لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت حوالي 400 هـ)، العباب للصغاني (ت 650 هـ)، لسان العرب لأبي الفضل محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي (ت 711 هـ)، القاموس المحيط لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ( ت 816 هـ)، تاج العروس لأبي الفيض المرتضى الزّبيدي (ت 1205 هـ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق